منتديات العرب
منتديات العرب
منتديات العرب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخولاتصل بنا
السيرة النبوية الشريف Kr4476x3g7q0    السيرة النبوية الشريف Kr4476x3g7q0   
<

 

 السيرة النبوية الشريف

اذهب الى الأسفل 
4 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
maykel skofild
عضو جديد
عضو جديد



عدد المساهمات : 73
نقاط : 137
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 29/11/2011

السيرة النبوية الشريف Empty
مُساهمةموضوع: السيرة النبوية الشريف   السيرة النبوية الشريف Emptyالأربعاء نوفمبر 30, 2011 2:29 pm

بسم الله الرحمن الرحيم

من عظيم نعمة الله - تعالى - على الإنسان أنه يعرب عمَّــا في نفســه باللسان، فينطــق بمــا يريد.

قال الله - تعالى - مذكّراً بهذه النعمة العظيمة: الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [الرحمن: 1 - 4] أي: التبيين عما في ضميره، وهذا شامل للتعليم النطقي والتعليم الخطي؛ فالبيان الذي ميِّز الله - تعالى - به الآدمي على غيره من أجلِّ نعمه وأكبرها عليه[1].

وفي مقام آخر بيَّن الله - تعالى - عظيم هذه النعمة على الإنسان، فقال - سبحانه -: أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: 8 - 01]. قال قتادة - رحمه الله تعالى -: نِعَم الله متظاهرة يقررك بها كيما تشكر [2].

وإذا كان الله - تعالى - قد علّم الإنسان البيانَ؛ فأَوْلى الناس بالبيان عما في نفوسهم رسُلُ الله - تعالى -؛ لأنهم يبلّغون عن الله - تعالى - دينه. قال الله - تعالى -: رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [النساء: 561]. وفي خصوص النبي محمد - عليه الصلاة والسلام - أخبرنا الله - تعالى - أنه معلِّم لنا، فقال - سبحانه -: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّـمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْـحِكْمَةَ [الجمعة: 2]، وأمره بالبلاغ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ [المائدة: 76]. كما أمره بالإنذار: وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إلَى رَبِّهِمْ [الأنعام: 15] وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء: 412]، وكلٌّ من الإنذار والبلاغ والتعليم يحتاج إلى بيان.

وأمَرَه - عز وجل - أن يقول لهم قولاً بليغاً، فقال - سبحانه -: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً [النساء: 36]، أي: وانصحهم فيما بينك وبينهم بكلام بليغ رادع لهم[3].

قال ابن الجوزي - رحمه الله تعالى -: وقد تكلم العلماء في حد البلاغة، فقال بعضهم: البلاغة إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ، وقيل: البلاغة حسن العبارة مع صحة المعنى، وقيل: البلاغة الإيجاز مع الإفهام والتصرف من غير إضجار[4].

* النبي - صلى الله عليه وسلم - وجوامع الكلم:

إن كبرى معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - هي القرآن، ومن أعظم إعجاز فيه وأكبره وأشهره هو الإعجاز البياني البلاغي. وكان العرب أهل بلاغة، فتحداهم الله - تعالى - أن يأتوا بمثله، وكان من المعجزات الربانية التي اختص الله - تعالى - بها رسولَه محمداً - صلى الله عليه وسلم - ما آتاه من الفصاحة والبلاغة؛ فجمع له عظيم المعاني في الكلمات اليسيرة والجمل القصيرة، وفي بعض الأحيان لا تتجاوز كلمتين أو ثلاثاً، فتُكتب فيها عشرات الصفحات، وهذا كثير جدّاً في سنته - صلى الله عليه وسلم -.

وكون فصاحته وبلاغته - عليه الصلاة والسلام - مما اختصه الله - تعالى - به من المعجزات دون غيره من الناس؛ ثابتٌ بالسنة من حديث أَبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قال: سمعت رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ» متفق عليه، وفي رواية لمسلم: «فُضِّلْتُ على الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ: أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ...» الحديث[5].قــال البخاري - رحمه الله تعالى - بعد أن رواه: وَبَلَغَنِــي أَنَّ جَــوَامِعَ الْكَلِمِ: أَنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ الْأُمُورَ الْكَثِيرَةَ التي كانت تُكْتَبُ في الْكُتُبِ قَبْلَهُ في الْأَمْرِ الْوَاحِدِ وَالْأَمْرَيْنِ أو نحو ذلك[6].

وقال ابن الجوزي - رحمه الله تعالى -: هي الألفاظ اليسيرة لجمع المعاني الكثيرة. ا. هـ[7]، وقال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: هي الألفاظ الكلية العامة المتناولة لأفرادها. ا. هـ[8].

* وصف الصحابة - رضي الله عنهم - لكلامه - صلى الله عليه وسلم -:

قالت عَائِشَةُ - رضي الله عنها -: «إِنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لم يَكُنْ يَسْرُدُ الحديث كَسَرْدِكُمْ»[9].

وفي رواية: «أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحدث حَدِيثاً لو عَدَّهُ الْعَادُّ لَأَحْصَاهُ»[10].

وفي رواية قالت: «كان كَلَامُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كَلَاماً فَصْلاً يَفْهَمُهُ كُلُّ من سَمِعَهُ»[11].

وفي رواية قالت: «إنما كان حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصْلاً تفهمه القلوب»[12].

وقولها: لم يكن يسرد الحديث كسردكم، أي: لم يكن يتابع الحديث استعجالاً بعضه إثر بعض؛ لئلا يلتبس على المستمع[13].

وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: ما سمعت كلمة عربية من العرب إلا وقد سمعتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [14].

ولاختياره - عليه الصلاة والسلام - أفصح الألفاظ وأليقها وأحسنها وأكملها، مع جمال أدائها، وحُسْن عرضها؛ كان - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس تعليماً. كما قال - عليه الصلاة والسلام -: «إِنَّ اللَّهَ لم يَبْعَثْنِي مُعَنِّتاً ولا مُتَعَنِّتاً وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّماً مُيَسِّراً»[15].

وفي وصف حُسن تعليمه - صلى الله عليه وسلم -، قال مُعَاوِيَةُ بن الْحَكَمِ السُّلَمِيُّ - رضي الله عنه -: (فَبِأَبِي هو وَأُمِّي ما رأيت مُعَلِّماً قَبْلَهُ ولا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيماً منه)[16].

ولم يكن اختصاره الكلام عن عجز عن الإطالة، ولكنْ فصاحة وبلاغة. واختصار المعاني الفخمة الكبيرة في كلمات موجزة قليلة، صارت بعد ذلك من قواعد الدين العظيمة؛ وإلا فإنه - صلى الله عليه وسلم - إذا احتاج إلى الإطالة أطال، ولم يكن طول حديثه ممِلاً ولا منقِصاً لفصاحته وبيانه، وقد خطب في أصحابه - رضي الله عنهم - خطباً طويلة، ذكر فيها المبدأ والمعاد وما بينهما وما ملوا خطبته، ولا ضجروا من طول حديثه؛ كما روى عَمْرَو بن أَخْطَبَ - رضي الله عنه - قال: «صلى بِنَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الْفَجْرَ وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حتى حَضَرَتِ الظُّهْرُ، فَنَزَلَ فَصَلَّى، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حتى حَضَرَتِ الْعَصْرُ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حتى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَأَخْبَرَنَا بِمَا كان وَبِمَا هو كَائِنٌ؛ فَأَعْلَمُنَا أَحْفَظُنَا»[17].

وعن عُمَرَ - رضي الله عنه - قال: «قام فِينَا النبي - صلى الله عليه وسلم - مَقَاماً فَأَخْبَرَنَا عن بَدْءِ الْخَلْقِ حتى دخل أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنَازِلَهُمْ وَأَهْلُ النَّارِ مَنَازِلَهُمْ، حَفِظَ ذلك من حَفِظَهُ وَنَسِيَهُ من نَسِيَه»[18].

وكما كان - عليه الصلاة والسلام - خطيبَ الناس في الدنيا ومعلمهم، فهو كذلك خطيبهم يوم القيامة، والمحامي عنهم الشافع لهم؛ كمـا روى أُبَــيُّ بــن كَعْـبٍ - رضي الله عنه - عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا كان يَوْمُ الْقِيَامَةِ كنت إِمَامَ النَّبِيِّينَ وَخَطِيبَهُمْ وَصَاحِبَ شَفَاعَتِهِمْ غير فَخْرٍ»[19].

وروى أَنَسٌ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنا أَوَّلُ الناس خُرُوجاً إذا بُعِثُوا، وأنا خَطِيبُهُمْ إذا وَفَدُوا، وأنا مُبَشِّرُهُمْ إذا أَيِسُوا»[20].

قال المناوي - رحمه الله تعالى -: خطيبهم بما يفتح الله عليه من المحامد التي لم يحمده بها أحد قبله، فهو المتكلم بين الناس إذا سكتوا عن الاعتذار، فيعتذر لهم عند ربهم، فيطلق اللسان بالثناء على الله بما هو أهله، ولم يؤذن لأحد في التكلم غيره. ا. هـ [21].

* وصف الجاحظ لكلامه - صلى الله عليه وسلم -:

لقد شهد أمراء البيان ورؤساء البلاغة وأساطين العربية، قديماً وحديثاً، للنبي - عليه الصلاة والسلام - بأن حديثه قد بلغ المنتهى في الفصاحة والبلاغة والبيان.

قال الجاحظ: وسنذكر من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما لم يسبقه إليه عربي، ولم يشاركه فيه عجمي، ولم يُدّعَ لأحد، ولا ادعاه أحد؛ مما صار مستعملاً، ومثلاً سائراً، فمن ذلك: قوله: «يا خيل الله اركبي! »، ومن ذلك قوله: «مات حتف أنفه»، ومن ذلك قوله: «لا ينتطح فيه عنزان»، ومن ذلك قوله: «الآن حمي الوطيس»[22].

وذكر الجاحظ جملة من جوامع كلِم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: وأنا أذكر بعد هذا فنّاً آخر من كلامه - صلى الله عليه وسلم -، وهو الكلام الذي قلَّ عدد حروفه وكثر عدد معانيه، وجل عن الصنعة، ونُزِّه عن التكلف، وكان كما قال الله -- تبارك وتعالى --: (قـــل) يا محمد: وَمَا أَنَا مِنَ الْـمُتَكَلِّفِينَ [ص: 68].

فكيف وقد عاب التشديق، وجانب أصحاب التقعيب، واستعمل المبسوط في موضع البسط، والمقصور في موضع القصر، وهجر الغريب الوحشي، ورَغِب عن الهجين السُّوقي؟ فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة، ولم يتكلم إلا بكلام قد حُفَّ بالعصمة، وشُيِّد بالتأييد، ويُسِّر بالتوفيق، وهو الكلام الذي ألقى الله عليه المحبة وغَشَّاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبين حسن الإفهام وقلة عدد الكلام، ومع استغنائه عن إعادته، وقلة حاجة السامع إلى معاودته. لم تسقط له كلمة ولا زلّت له قدم، ولا بارت له حجة، ولم يقم له خصم، ولا أفحمه خطيب، بل يَبذُّ الخطب الطِّوال بالكلم القصار، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتجُّ إلا بالصدق، ولا يطلب الفَلْجَ إلا بالحق، ولا يستعين بالخِلابة، ولا يستعمل المواربة، ولا يهمز ولا يلمز، ولا يُبطئ ولا يَعْجَل، ولا يسهب ولا يَحْصَر. ثم لم يسمع الناس بكــلام قط أعــمَّ نفعــاً، ولا أصدق لفظاً، ولا أعدل وزناً، ولا أجمل مذهباً، ولا أكرم مطلباً، ولا أحسن موقعاً، ولا أسهل مخرجاً، ولا أفصح عن معنىً، ولا أبين في فحوىً من كلامه - صلى الله عليه وسلم - كثيراً. ا. هـ[23].

* وصف القاضي عياض لكلامه - صلى الله عليه وسلم -:

قال القاضي عياض - رحمه الله تعالى -: وأما فصاحة اللسان وبلاغة القول، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - من ذلك بالمحل الأفضل، والموضع الذي لا يُجهل؛ سلاسة طبع، وبراعة منزع، وإيجاز مقطع، ونصاعة لفظ، وجزالة قول، وصحة معانٍ، وقلة تكلُّف. أوتي جوامع الكَلِم، وخُص ببدائع الحِكَم، وعُلِّم ألسنة العرب، يخاطب كل أمة منها بلسانها، ويحاورها بلغتها، ويباريها في منزع بلاغتها، حتى كان كثير من أصحابه يسألونه في غير موطن عن شرح كلامه وتفسير قوله. ومن تأمل حديثه وسيَره علِم ذلك وتحققه، وليس كلامه مع قريش والأنصار وأهل الحجاز ونجد ككلامه مع ذي المشعار الهمداني، وطهفة النهدي، وقطن بن حارثة العليمي، والأشعث بن قيس، ووائل ابن حجر الكندي، وغيرهم من أقيال حضرموت وملوك اليمن. ا. هـ[24].

وذكر القاضي عياض أمثلة من مخاطبته - عليه الصلاة والسلام - للقبائل بألسنتها ولهجاتها، ثم قال - رحمه الله تعالى -: وأما كلامه المعتاد، وفصاحته المعلومة، وجوامع كلمه، وحِكَمه المأثورة؛ فقد ألّف الناس فيها الدواوين، وجُمعت في ألفاظها ومعانيها الكتــب، وفيها ما لا يــوازَى فصــاحـــة، ولا يبارَى بلاغة... ثم مضى القاضي عياض في سرد أمثلة كثيرة من السنة على جوامع الكلم في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - [25].

ثم قال - رحمه الله تعالى -:... إلى ما روته الكافة عن الكافة من مقاماته، ومحاضراته، وخطبه، وأدعيته، ومخاطباته، وعهوده، مما لا خلاف أنه نزل من ذلك مرتبـة لا يقاس بها غيره، وحاز فيها سبقاً لا يُقدَّر قدره. وقد جمعت من كلماته التي لم يسبق إليها، ولا قدر أحد أن يُفرِغ في قالبه عليها كقوله... وذكر بعض الأمثلة التي أوردتُها آنفاً من كلام الجاحظ[26].

ثم قال القاضي عياض - رحمه الله تعالى -: فَجُمِع له بذلك - صلى الله عليه وسلم - قوة عارضة البادية وجزالتها، ونصاعة ألفاظ الحاضرة ورونق كلامها، إلى التأييد الإلهي الذي مدده الوحي الذي لا يحيط بعلمه بشري. قالت أم معبد في وصفها له: حلو المنطق، فصْل لا نَزْرٌ ولا هَذْرٌ، كأن منطقه خرزات نُظِمْن، وكان جهير الصوت، حسن النغمة - صلى الله عليه وسلم -. ا. هـ[27].


* كراهته - صلى الله عليه وسلم - التكلف في الكلام:

الفصيح من الناس يكره التكلف والمتكلفين في الكلام، المتقعرين فيه، المتشدقين به. ولما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أفصح الناس؛ فإنه كره التكلف في الكلام، فقال - عليه الصلاة والسلام -: «إن أَحَبَّكُمْ إليَّ وَأَقْرَبَكُمْ منّي في الآخِرَةِ مَحَاسِـنُكُمْ أَخْلاَقاً. وإن أَبْغَضَكُمْ إليَّ وأَبْعَدَكُمْ مني في الآخِرَةِ مَسَاوِيكُمْ أَخْلاَقاً؛ الثَّرْثَارُونَ الْمُتَفَيْهِقُونَ الْمُتَشَدِّقُونَ»[28].

وفي حديث آخر قال - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أُنَبِّئُكُمْ بِشِرَارِكُمْ؟ فقال: هُمُ الثَّرْثَارُونَ الْمُتَشَدِّقُونَ، ألا أُنَبِّئُكُمْ بِخِيَارِكُمْ؟ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاَقاً»[29].

قال النووي - رحمه الله تعالى -: الثرثار: هو كثير الكلام تكلُّفاً، والمتشدق: المتطاول على الناس بكلامه، ويتكلم بملء فيه تفاصحاً وتعظيماً لكلامه، والمتفيهق: أصله من الفهق، وهو الامتلاء، وهو الذي يملأ فمه بالكلام ويتوسع فيه ويغـرب به تكبُّــراً وارتفــاعاً وإظهاراً للفضيلة على غيره. ا. هـ[30].

* إفراد خطبة بحديث نبوي:

ما ذكرتُه آنِفاً وأطلت فيه، وأكثرت فيه من النقول في وصف حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هو من باب دعوة إخواني الخطباء والدعاة إلى العناية بحديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في زمن نسمع فيه دعوات فجة إلى الإعراض عنه، والتقليل من قيمته، والتشكيك في أهميته.

ومن المستحسن أن يخُص الخطيب خطبته بين الحين والآخر بحديث يختاره فيشرح معانيه، ويذكر فوائده ولطائفه؛ ليُعَظِّم السُّنة في قلوب الناس، ويعوِّد آذانَهم على سماع حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مع ما يفيدهم به من علم غزير، ودروس نافعة، وفوائد جامعة في العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق والرقاق وغيرها.

وينبغي للخطيب في اختياره للحديث الذي يكون موضوع خطبته أن يراعي أموراً، منها:

أولاً: التأكد من صحة الحديث، وقد سبق أن أشبعت هذه القضية في مقـــالة (استدلال الخطيـــب بالسنة) ممَّا لا داعي لتكراره هنا[31].

لكن أزيد هنا على ما ذكرته في المقالة المذكورة فأقول: إذا كان من الخطــورة بمكان أن يستدل الخطيب بحديث لا يثبت؛ فإن الخطر يكون أكبر إذا كان مبنى الخطبة كلها على حديث ضعيف يصول فيه الخطيب ويجول، ويستخرج منه النكات والفوائد والدروس، ثم في النهاية يقال له: هذا حديث لا يثبت!

وهذا الصنف من الخطباء يُخشى عليه من الإثم العظيم في تربيته الناس على ما لا يصح، وإذا كان الخطيب يلام في إيراد حديث واحد لا يثبت مستشهداً به؛ فأين ذلك الاستدلال ممن بنى جميع خطبته على ما لا يثبت؟ ولذا؛ فإنه يجب على الخطيب في مرحلة اختياره الحديث لخطبته أنْ يستوثق من صحته استيثاقاً يطمئن القلب إليه، ولا يحل له أن يقصِّر في ذلك، أو يتساهل فيه.

ولو اقتصر على ما في الصحيحين أو أحدهما لكان حسناً، لكنه سيفوِّت أحاديث صحيحة جامعة نافعة في غيرهما، وهي كثيرة جداً، والبخاري ومسلم عليهما - رحمة الله - تعالى - لم يدّعيا أنهما استوعبا في كتابيهما كل الأحاديث الصحيحة، ولا ادّعاه العلماء لهما.

ثانياً: نقل الحديث عن المصدر الأصلي له، وعدم الاعتماد على المصادر التي نقلت عن الأصل؛ لزيادة التوثيق، والسلامة من الخطأ والتحريف والتصحيف.

ثم إن بعض الناقلين عن الأصل قد يتصرفون في الحديث بالاختصار، أو الاقتصار على الشاهد منه دون بقية الحديث، والخطيب قد اختار هذا الحديث موضوعاً لخطبته؛ فكيف يقتصر على بعضه فقط؟! .

بل قد يقع في بعض الأحاديث المهمة التي هي مظنة موضوع خطبة أو محاضرة حذفٌ من الناقل عن المصدر الأصلي. ومما يحضرني في ذلك أن النووي - رحمه الله تعالى - في رياض الصالحين لما أورد حديث: «من عادى لي ولياً... » في موضعين، حذفَ منه فيهما كليهما آخر الحديث، وهو قول الله - تعالى -: «وما تَرَدَّدْتُ عن شَيْءٍ أنا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عن نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وأنا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ»[32].

وفعل ذلك أيضا في الأربعين التي اختارها واشتهرت بالأربعين النووية[33].

ولو كان ذاك في موضع استشهاد لاعتُذِر له بالاقتصار على موضع الشاهد، ولكنه في رياض الصالحين وفي الأربعين يسوق الأحاديث التي انتقاها لهما كاملة، ثم إنه لم يُشر إلى ما حذفه إشارة يبين بها تصرفه في الحديث. ولذا، فات على كثير من شارحي رياض الصالحين ومحققيه وشارحي الأربعين النووية؛ التنبيهُ على هذا النقص في هذا الحديث[34].

فهذا مثال واضح في حديث مشهور، وفي كتابين للنووي هما أشهر كتبه وأكثرهما انتشاراً، وأكثر الناس يعتمد عليهما - ولاسيما رياض الصالحين - في مطالعة الأحاديث وتخريجها، فكيف بما دونهما من الكتب شهرة وعناية وتخريجاً؟ ولعلّه بهذا المثال الواضح يتبين للخطيب أهمية مراجعة الأصول (الكتب المسندة) في نقل الأحاديث وتخريجها، ولاسيما ما كان منها أصلاً لخطبته.

ثالثاً: جمْــع روايات الحديث سواء عن الصحابي نفسه أو عن غيره؛ فقد يكون فيها زيادات مهمة تزيد في المعنى وتنفع السامع. وتلك هي طريقة العلماء في شرح الأحاديث؛ كابن عبد البر في التمهيد، وابن رجب في جامع العلوم والحكم، أو في الأجزاء التي أفردها لشرح بعض الأحاديث، وابن حجر في الفتح، وغيرهم.

ومعلوم أن الخطيب هنا لا يستشهد بالحديث فتكفيه رواية واحدة، أو جزء منه، وإنما جعل خطبته كلها في هذا الحديث، فمن حق المستمع عليه أن يعلم كل ما هو مهم ومفيد فيه حسب علمه واستطاعته، وأهم شــيء فــي ذلك ما في الروايات الأخرى من زيادات وإيضاح.

ويجب على الخطيب - كما استوثق من ثبوت الحديث الأصل - أن يستوثق من ثبوت الروايات الأخرى، ولا يتساهل فيها؛ لأنه ليست كل زيــادة صحيحــة، بــل قد تكون شاذة أو ضعيفة أو منكرة.

رابعاً: يختار من الروايات أصحها وأتمها، فإن وجدت عنده رواية اتفق الحُفَّاظ أو الشيخان عليها، وواحدة انفرد بها أحد الحفاظ دون غيره، أو خرّجها أحد الشيخين؛ فلْيعتمد الرواية التي عليها أكثر الحفاظ أو المتفق عليها؛ لأنها أقوى وأبعد عن الغلط.

فإن كانت الرواية الأصح مختصرة، والأقل صحة أتم منها؛ فلا شك أن اعتماد الرواية الأتم فيه فائدة أكثر، لكن بشرط أن تكون صحيحة، ولا تخالف الرواية المختصرة فتكون شاذة، ولو جمع بينهما فجعل الرواية الأقوى هي الأصل، ثم أعقبها بالرواية الأتم منها؛ لكان محقِّقاً للغايتين؛ إذ يعلم الناس أن الرواية المختصرة هي الأقوى، والثانية هي الأتم.

وسياقه للرواية الأتم يريحه في أثناء إضافته الزيادات الصحيحة عليها من الروايات الأخرى؛ إذ في الغالب أن الزيادات تكون قليلة لتمام الرواية التي ساقها، وهذا يكون أشدَّ بناء للحديث، وأَنْظَمَ لسياقه، وأقل تشويشاً على السامع؛ فينسجم مع الخطيب وحديثه.

ويتأكد اختياره للرواية الأصح في الأحاديث القصيرة الجامعة التي هي قواعد كبرى لما يلي:

1- أنها أدلُّ شيء على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أعطي جوامع الكلم.

2- أن الإخلال بألفاظها قد يختل به المعنى، والناقل لم ينتبه إلى ذلك.

3- أن بعض علماء الأصول شدَّدوا في جواز رواية مثل هذه الأحاديث بالمعنى، فقد نقل السرخسي - رحمه الله تعالى - قولَ المجيزين لرواية مثل هذه الأحاديث الجامعة بالمعنى، ثم قال: والأصح عندي أنه لا يجوز ذلك؛ لأن النبي - عليه السلام - كان مخصوصاً بهذا النظم على ما روي أنه قال: «أوتيت جوامع الكلم»، أي: خُصصت بذلك، فلا يقدر أحد بعده على ما كان هو مخصوصاً به، ولكن كلٌّ مكلف بما في وسعه، وفي وسعه نقل ذلك اللفظ ليكون مؤدياً إلى غيره ما سمعه منه بيقين، وإذا نقله إلى عبارته لم يؤمَن القصور في المعنى المطلوب به، ويتيقن بالقصور في النظم الذي هو من جوامع الكلم، وكان هذا النوع هو مراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «ثم أداها كما سمعها». ا. هـ[35].

وقال الشوكاني - رحمه الله تعالى -: وشرط بعضهم - أي: في الرواية بالمعنى - ألّا يكون الخبر من جوامع الكلم، فإن كان من جوامع الكلم... لم تجز روايته بالمعنى. ا. هـ[36].

* أقسام الأحاديث من حيث طولها وقصرها:

يمكن تقسيم الأحاديث من جهة طولها وقصرها إلى ثلاثة أقسام:

الأول: أحاديث طويلة، وغالبها - إن لم يكن كلها - قصص، وبعضها طويل جدّاً، مثل: حديث الإفك، وقصة الثلاثة المتخلفين عن تبوك، وبعضها أقصر لكنه يبقى في قسم الطويل، مثل: قصة الأعمى والأقرع والأبرص، وقصة الغلام والساحر والراهب.

الثاني: أحاديث متوسطة، وهي كثيرة جدّاً، مثل: «إن الحلال بيِّن وإن الحرام بين... »، وبعضها أمثالٌ ضربها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته، مثل: حديث: «مثلُ ما بعثني الله به من الهدى... »، وحديث: «مثل القائم في حدود الله والواقع فيها... ».

الثالث: أحاديث قصيرة، ومنها ما هو قصير جدّاً، ولكنها تمثل قواعد كبرى في العبادات، مثل: (إنما الأعمال بالنيات... »[37]، أو في المعاملات، مثل: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل»، أو في القضاء مثل: «البينة على المدعي... » أو في الأخلاق والسلوك، مثل: «مِن حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»، أو في الصحة، مثل: «ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه»، أو في حياطة الشريعة وحماية العبد من الزيادة، مثل: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»، أو في تخفيف التكليف، مثل: «إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم»، أو غيرها. وهذا كثير في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذه الأحاديث من أبين ما يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أوتي جوامع الكلم.

فأما القسم الأول - وهي الأحاديث الطويلة - فيأتي الكلام عليها إن شاء الله - تعالى - في مقالة مفردة بعنوان (الخطيب وقصص السنة النبوية)، أُفصِّل فيها تعامل الخطيب معها.

وأما القسم الثاني - وهي الأحاديث المتوسطة - فإن أحاديثها تناسب أن تفرد في خطبة كاملة، تكون الأولى في سياقة الحديث ورواياته ومعانيه وما يستنبط منه، ثم في الخطبة الثانية يُنزِل الخطيبُ الحديثَ على واقع الناس مبيّناً مقدار قربهم مما دل عليه أو بُعدهم عنه، كاشفاً مواضع الخلل التي نأَتْ بهم عن العمل بهذا الحديث، مستنهضاً هممهم للأوبة والتوبة من تقصيرهم فيه، مركّزاً قوله على أهمية التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وطاعة أوامره واجتناب نواهيه. وهذا الحديث إما أن يكون في أمر قصّروا فيه، أو نهي ارتكبوه، أو في كليهما.

ولو دعم قوله ببعض تطبيقات السلف والعلماء والصالحين لِـما ورد في الحديث؛ لكان أكثر وقعاً على القلب، وأشد إزراء بالنفس المقصرة التي تأمر بالسوء وتتثاقل عن الطاعة.

وأما القسم الثالث فإن غالب هذه الكلمات الجامعة وإن قلَّت حروفها - قد أسس العلماء عليها قواعد كبرى، تنتظم الكثير والكثير من الجزئيات والمسائل في العبادات أو المعاملات أو الأخلاق أو الأسرة أو السياسة الشرعية أو غيرها، فينتقي من هذا الكم الهائل مما دل عليه الحديث من قواعد ومسائل وأمثلة ما تشتد إليه حاجة الناس مما غفلوا عن فضله فتركوه، أو جهلوا إثمه فاجترحوه.

فمثلاً: حديث «إنما الأعمال بالنيات.. » يستطيع الخطيب أن ينطلق منه للاحتساب في كل شيء حتى في العادات فتتحول إلى عبادات؛ كاحتساب الأكل والشرب والنوم للتقوِّي على طاعة الله - تعالى -، وللمحافظة على بدنه الذي هو أمانة عنده فلا يتصرف فيه إلا بأمـــــر الله - تعالى - واحتساب الوظيفة لنفع الناس وخدمتهم وتوفير اللقمة الحلال، واحتساب النفقة على الأهل والعيال لإعفافهم وإغنائهم عن السؤال، وللقيام بالواجب الشرعي المنوط به تجاههم... وهكذا دواليك؛ فإن كل الناس يأكلون ويشربون ويعملون في الوظائف، وينفقون على أولادهم، حتى الكفار يفعلون ذلك، فإذا رسَّخ الخطيب هذا المعنى في الناس منطلقــــاً من هذا الحديث العظيم نَقَلَهم إلى ذكر الله - تعالى - في كل شؤونهم، والاحتساب له في كل أعمالهم وأحوالهم، فكان لهم باحتسابهم أجور عظيمة فاتت كثيراً منهم من قبل، وكان للخطيب من الأجر مثل أجورهم؛ لأنه هو الذي دلهم على هذا الباب العظيم من الخير.

وهكذا يفعل الخطيب في كل الأحاديث الأخرى التي تمثل قواعد كبرى، ويُستخــرج منهــا جــزئيــات كثيــرة؛ إذ لا انفكاك عن حاجة الناس إليها في شؤونهم وأحوالهم.

* أقسام الأحاديث من جهة وحدتها الموضوعية:

يمكن تقسيم الأحاديث من جهة وحدتها الموضوعية إلى أقسام ثلاثة:

الأول: أحاديث وردت في موضوع واحد، مثل: حديث «إنما الأعمال بالنيات.. »؛ فلا إشكال فيها؛ لأنه لن ينتقل من موضوع إلى آخر.

فإن كان الحديث طويلاً أو فوائده كثيرة جدّاً؛ قسّم فوائده على خطبتين أو أكثر، وفي كل مرة يأتي بالحديث، ويُجمل في كل خطبة منها ما فصّله في الخطبة الأخرى.

وفي الغالب أن مثل هذه الأحاديث تكفيها خطبة واحدة إذا ركَّز الخطيب خطبته، ولم يتشعب إلى موضوعات فيها بُعْدٌ عن الحديث، ولم يكثر من الدقائق والتفصيلات التــي لا يحتاج الناس إليها.

الثاني: أحاديث وردت في أكثر من موضوع، ولكن بين موضوعاتها ارتباط ظاهر، وذلك مثل: حديث السبع الموبقات؛ فإن الرابط بين هذه السبع كونها من الموبقات.

وهذه إما أن يتحدث في خطبته عن جميعها بإيجاز، مبيِّناً خطر كل واحدة منها حتى صارت من الموبقات دون التفصيل فيها؛ لأن مقصوده تعليل كونها من الموبقات، وهذا هو المطلوب، ويصدق عليه حينئذٍ أنه ركَّز خطبته في هذا الحديث. وإما أن يُفرد كل واحدة من السبع الواردة في الحديث بخطبة مستقلة، فيكون قد خرج عن كونه جعل خطبته في حديث إلى الموضوع الذي اختاره من هذه السبع.

الثالث: أحاديث وردت في أكثر من موضوع وليس بين موضوعاتها ارتباط ظاهر، وغالباً ما تكون إجابة عن أسئلة، مثل: حديث جبريل الطويل في الإسلام والإيمان والإحسان وأمارات الساعة، وحديث أنس في سؤالهم النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أحفوه في المسألة.

وعلى الخطيب أن يبتعد عن التفصيلات التي لا تفيد الناس أو التي قد تثير إشكالات عندهم، مثل: المسائل الخلافية، أو المسائل المشكلة، أو الإيرادات التي قد ترد على الحديث، وهذه محلها الدروس ومجالس العلم ولا تُلقى على العامة فتحدث فتنة فيهم.

* الربط بين جمل الحديث:

أغلب الأحاديث يوجد ارتباط وثيق بين جملها وإن بدا لقارئها أنها في موضوعات مختلفة، إلا القليل من الأحاديث التي لا يظهر بين جملها ارتباط، وهي التي تكون أجوبة على أسئلة، فهي بحسب أسئلة السائل. وهنا ينبغي أن تظهر براعة الخطيب في الربط بين جمل الحديث، ولا يتأتى ذلك للخطيب إلا بشيئين:

أولهما: قراءة ما أمكن من شروح الحديث وكلام العلماء عليه، سواء كانت شروحاً مطولة أم مختصرة أم مجرد تعليقات قليلة؛ فقد يكون في بعض التعليقات القصيرة من الفائدة ما يغني عن صفحات كثيرة[38].

ثانياً: التأمل كثيراً في الحديث وعلاقة كل جملة منه بالأخرى، وحصر كل الموضوعات التي يمكن أن تندرج تحتها، ثم النظر في المشترك بين موضوعات هذه الجمل. ومع كثرة التأمل والتفكير وذكر الله - تعالى - وتسبيحه واستغفاره ودعائه وإخلاص النية له - سبحانه - ستفتح له فتوحات عجيبة.

ويحضرني في هذا ما ذكره ابن القيم - رحمه الله تعالى - من مناسبة تحذير النبي - صلى الله عليه وسلم - من الزنا في خطبة الكسوف، فقال: وفي ذكر هذه الكبيرة بخصوصها عقيب صلاة الكسوف سرٌ بديع لمن تأمله، وظهور الزنا من أمارات خراب العالم وهو من أشراط الساعة... وقد جرت سنة الله - سبحانه - فى خلقه أنه عند ظهور الزنا يغضب الله - سبحانه وتعالى - ويشتد غضبه؛ فلا بد أن يؤثر غضبه في الأرض عقوبة. ا. هـ[39].

وقال في مقام آخر: وفي ذكر هذا الذنب بخصوصه في خطبة الكسوف سر بديع قد نبّهْنا عليه في باب غض البصر وأنه يورث نوراً في القلب؛ ولهذا جمع الله - سبحانه وتعالى - بين الأمر به وبين ذكر آية النور، فجـــمع الله - سبحانه - بين نور القلب بغض البصر وبين نوره الذي مثّله بالمشكاة لتعلق أحدهما بالآخر، فجمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين ظلمة القلب بالزنا وبين ظلمة الوجود بكسوف الشمس، وذكر أحدهما مع الآخر. ا. هـ[40]. فهذا ربط عجيب موفق من ابن القيم، - رحمه الله تعالى -.

ومن أعلى مراتب العلم ما يُوفَّق له العبد من الاستنباطات البديعة والفتوحات العجيبة، وذلك فضل الله - تعالى - يؤتيه من يشاء، ولا يحقــــر العبــــد نفسه فـــقد يفتح الله - تعالى - له باباً في ذلك حُجب عن غيره، فليكثر من التأمل في النصوص، ويجتهد في الاستنباط، ويستعين بالله، - تعالى -.

وعلى الخطيب إنْ توصل إلى معنى لم يُسبق إليه أن يعضده بالاستدلال نصّاً ومعنى، ويشاور فيه أهل العلم الراسخين بعد أن يستكمله، فلعله كان مخطئاً، أو لعل أحداً قال به قبله فيُرشد إليه فيكون ذلك من التوفيق ومن التوافق في الاستنباط والتفكير، أو لعل أحداً يورد إيرادات عليه تمنعه من الجزم بما توصل إليه، أو يكون مستعداً للإجابة عن هذه الإيرادات.

من أمثلة الأحاديث التي لآخرها تعلق بأولها: حديث «إن الحلال بيــن... » فـي آخــره: «ألا وإن فـي الجسد مضـغة إذا صلحــت صلـح الجسد كلــه... »، كأن الـرابـط - واللـه أعلم - أن صلاح القلب سبب للتورع عن الحرام والمتشابه، كما أن فساده سبب للوقوع في الحرام، وبقدر ما في القلب من صلاح وفساد يقترب صاحبه من الحرام أو يبتعد عنه، فكان مناسباً أن يُذيّل الكلام على الحرام والحلال والمتشابه بما يكون سبباً للوقوع في الحرام والمتشابه؛ وهو فساد القلب، أو التورع عنهما؛ وهو صلاح القلب.

* تنـزيل الحديث على واقع الناس:

حين اختار الخطيب حديثاً معيناً ليجعله موضوع خطبته فإنه إنما فعل ذلك ظنّاً منه أن الناس محتاجون إليه، وأنهم سينتفعون بما فيه من علم، فأفرده بخطبة دون غيره من الأحاديث. ولذا، فإنه يجدر بالخطيب أن يعتني بتنزيل الحديث على واقع الناس حتى تكمل فائدتهم به.

فإن كان الحديث في التنبيه على فريضة قصّر الناسُ فيها؛ ذَكَر لهم نماذج من تقصيرهم، وقارنها بأمور دنيوية يهتمون بها، ودعاهم إلى المحافظة عليها، مبيّناً لهم مكانتها عند الله - تعالى - ومنزلتها من الشريعة. وإن كان الحديث متعلقاً بسنة مهجورة؛ بيّن لهم فضلها وهجر الناس لها، وحفّز هممهم إلى إحيائها وإشهارها. وإن كان الحديث في محرم قد وقع كثير من الناس فيه، بيّن خطورته وحجم انتهاكهم له، وحذرهم منه. وإن كان الحديث في ذم الدنيا؛ ذكَر لهم مقدار تكالب الناس عليها في هذا الزمن، وعقد مقارنة بين ما تكالبوا عليه من قليل الدنيا وما فرطوا فيه من كثير العمل الصالح.


______________

[1] تفسير السعدي، ص 828.

[2] تفسير البغوي، 4/489.

[3] تفسير ابن كثير 1/520.

[4] زاد المسير 2/122.

[5] رواه البخاري(6611)، ومسلم(523).

[6] الجامع الصحيح 6/2573، وبعض العلماء يرى أن المقصود بجوامع الكلم القرآنُ الكريم دون غيره. ونُسب للزهري وفُهِم من طريقة البخاري في إيرد حديث «إنما كان الذي أوتيته وحياً» عقبه، وقال به ابن بطال في شرحه للبخاري 5/157، ومال إليه البيهقي في الشُّعَب فقال: والظاهر أنه أراد به القرآن، وعلى ذلك يدل سياق الحديث الذي عن عمر في ذلك، وقد حمله الحليمي - رحمه الله - على كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وكلاهما محتمل. اهـ، 2/160.

والصواب أن جوامع الكلم التي أعطيها النبي - صلى الله عليه وسلم - تشمل القرآن ولا خلاف فيه، وتشمل السنة؛ لإطباق العلماء على أن كلامه - عليه الصلاة والسلام - ليس ككلام غيره، وألّفوا كتباً في كلماته اليسيرة الجامعة لمعانٍ عظيمة. يقــول الحــافظ ابـن رجب - رحمه الله تعالى -: جوامع الكلم التي خص بها النبي - صلى الله عليه وسلم - نوعان:

أحدهما: ما هو في القرآن؛ كقوله - تعالى -: إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْـمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 09] قال الحسن: لم تترك هذه الآية خيراً إلا أمرت به، ولا شراً إلا نهت عنه.

والثاني: ما هو في كلامه - صلى الله عليه وسلم -، وهو منتشر موجود في السنن المأثورة عنه - صلى الله عليه وسلم -، وقد جمع العلماء - رضي الله عنهم - جموعاً من كلماته - صلى الله عليه وسلم - الجامعة. ا. هـ.

من جامع العلوم والحكم، ص5. وينظر: شرح النووي على مسلم 5/5، وفتح الباري لابن حجر 13/248.

[7] غريب الحديث لابن الجوزي 1/171.

[8] إعلام الموقعين 1/261.

[9] رواه البخاري (3375)، ومسلم (2493).

[10] هذه الرواية للبخاري (3374)، ومسلم (2493).

[11] هذه الرواية لأبي داود (4839) والترمذي (3639) وأحمد 6/138، وحسنها الترمذي ثم الألباني.

[12] هذه الرواية لأبي يعلى (4393).

[13] فتح الباري 6/578.

[14] صفة الصفوة ج1/ص202

[15] رواه مسلم من حديث جابر - رضي الله عنه - (1478).

[16] رواه مسلم (537).

[17] رواه مسلم (2892).

[18] رواه البخاري (3020)، ورواه مسلم من حديث حذيفة - رضي الله عنه - (2891)، ورواه الترمذي من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -، وقال: حسن صحيح (2191)، وأحمد من حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - 4/254.

[19] رواه الترمذي وحسنه (3613)، وابن ماجه (4314)، وأحمد 5/137، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي 4/88، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه.

[20] رواه الترمذي وقال: حسن غريب (3610)، والدارمي(48).

[21] فيض القدير 1/427.

[22] البيان والتبيين 2/15، من طبعة عبد السلام هارون، - رحمه الله تعالى -. ويلاحظ في الطبعات الأخرى اختلاف عنها في بعض الكلمات بسبب اختلاف المخطوطات، وبسبب التصحيف والتحريف والأخطاء المطبعية.

[23] البيان والتبيين 2/16-18، وفيه نَقَل الجاحظ عن محمد بن سلام قال: قال يونس بن حبيب: ما جاءنا عن أحد من روائع الكلام ما جاءنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ا. هـ2/18.

فتعقبه السهيلي قائلاً بعد نقله: وغُلِّط في هذا الحديث، ونُسِب إلى التصحيف، وإنما قال القائل: ما بلغنا عن البتّيِّ يريد عثمان البتي، فصحّفه الجاحظ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أجلُّ من أن يخلط مع غيره من الفصحاء حتى يقال: ما بلغنا عنه من الفصاحة أكثر من الذي بلغنا عن غيره، كلامه أجلّ من ذلك صلوات الله عليه وسلامه. ا. هـ، من الروض الأنف 7/200.

[24] الشفا بتعريف حقوق المصطفى 1/70، 71.

[25] الشفا 1/77.

[26] الشفا 1/80.

[27] الشفا 1/80، 81.

[28] رواه الترمذي من حديث أبي ثعلبة الخشني - رضي الله عنه -: وقال: حسن غريب (2018)، وأحمد 4/193، وابن أبي شيبة 5/210.

[29] رواه أحمد من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: 2/369.

[30] رياض الصالحين، ص 136.

[31] البيان، عدد 248، ص 78.

[32] صحيح البخاري (6137).

[33] رياض الصالحين، برقمي (95) و (386)، وكذا في الأربعين، الحديث الثامن والثلاثون منها.

[34] لأهمية هذا الموضوع؛ فإني حاولت استقصاء الكتب التي شرحت رياض الصالحين والأربعين النووية وطبعات رياض الصالحين المحققة أو المخرجة؛ لمعرفة من تنبه لهذا الحذف ومن فات عليه من الشارحين والمحققين؛ ليبين للقارئ تتابع الناس على الخطأ وقلة من ينتبه له بالنسبة لمن يفوت عليه، فكانت نتيجة ما توصلت إليــــه كما يلي:

أولاً: رجعت إلى ثمانية عشر شرحاً للأربعين النووية..، انتبهَ لهذا الحذف منهم ستة فقط، وفات على اثني عشر شارحاً.

ثانياً: رجعت إلى ستة شروح لرياض الصالحين..، انتبه للحذف ثلاثة منهم، وفات على ثلاثة. مع أن الشارح في شرحه لا بد أن يراجع شروح البخاري والمحذوف فيه.

ثالثاً: رجعت إلى أحد عشر تحقيقاً لرياض الصالحين، لم ينتبه للحذف منهم إلا واحد فقط، هو الألباني - رحمه الله تعالى - وفات على عشرة.

[35] أصول السرخسي 1/357.

[36] إرشاد الفحول، ص 107-108.

[37] يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: قوله - صلى الله عليه وسلم -: « إنما الأعمال بالنيات» مما خصه الله - تعالى - به من جوامع الكلم، كما قال: «بعثت بجوامع الكلم»، وهذا الحديث من أجمع الكلم الجوامع التي بعث بها؛ فإن كل عمل يعمله عامل من خير وشر هو بحسب ما نواه، فإن قصد بعمله مقصوداً حسناً كان له ذلك المقصود الحسن، وإن قصد به مقصوداً سيئاً كان له ما نواه. ا. هـ، مجموع الفتاوى 18/254.

[38] وذلك مثل تعليقات السندي - رحمه الله تعالى - على السنن والمسند فيها فوائد غزيرة في كلمات قليلة، وهكذا تعليقات الشيخ ابن باز - رحمه الله تعالى - في دروسه؛ فإنه كان لا يكثر من الشرح ولكن إذا علق كان تعليقه فصلاً في المسائل الخلافية، وحلَّا لما يتبادر من مشكلات، وهي تعليقات مختصرة لكنها مركزة عظيمة النفع ما خرجت إلا بعد تأمل وبحث، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. قال الدارقطني - رحمه الله تعالى -: كان أبو القاسم بن منيع - رحمه الله تعالى - قلما يتكلم على الح[size=24]ديث، فإذا تكلم كان كلامه كالمسمار في الساج. رواه الخطيب في تاريخه10/116.

[39] الداء والدواء، ص 114.

[4
0] روضة ا[/size]لمحبين، ص295.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
maykel skofild
عضو جديد
عضو جديد



عدد المساهمات : 73
نقاط : 137
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 29/11/2011

السيرة النبوية الشريف Empty
مُساهمةموضوع: رد: السيرة النبوية الشريف   السيرة النبوية الشريف Emptyالأربعاء نوفمبر 30, 2011 2:32 pm

[i]ولله لهذه الا جزئ من حيات الرسول (ص) وهو قدوة3لنا وللجميع
[/i]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
GTAsan
عضو
عضو
GTAsan


البلد : الجزائر
عدد المساهمات : 162
نقاط : 268
السٌّمعَة : -1
تاريخ التسجيل : 27/11/2011

السيرة النبوية الشريف Empty
مُساهمةموضوع: رد: السيرة النبوية الشريف   السيرة النبوية الشريف Emptyالأربعاء نوفمبر 30, 2011 3:31 pm

مشكور اخي على الموضوع الجميل
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
GTAsan
عضو
عضو
GTAsan


البلد : الجزائر
عدد المساهمات : 162
نقاط : 268
السٌّمعَة : -1
تاريخ التسجيل : 27/11/2011

السيرة النبوية الشريف Empty
مُساهمةموضوع: رد: السيرة النبوية الشريف   السيرة النبوية الشريف Emptyالأربعاء نوفمبر 30, 2011 3:31 pm

مشكور اخي على الموضوع الجميل
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Sakr Taiz
عضو جديد
عضو جديد
Sakr Taiz


عدد المساهمات : 72
نقاط : 78
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 02/12/2011
العمر : 29

السيرة النبوية الشريف Empty
مُساهمةموضوع: رد: السيرة النبوية الشريف   السيرة النبوية الشريف Emptyالجمعة ديسمبر 02, 2011 1:02 am

مشكور اخي على الموضوع الجميل
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
نسر الصحراء
عضو جديد
عضو جديد
نسر الصحراء


عدد المساهمات : 38
نقاط : 38
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 08/12/2011
العمر : 25

السيرة النبوية الشريف Empty
مُساهمةموضوع: رد: السيرة النبوية الشريف   السيرة النبوية الشريف Emptyالخميس ديسمبر 08, 2011 3:13 pm

مشكور ا.خي على الموضوع الجميل
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
السيرة النبوية الشريف
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات العرب :: المنتديات الإسلامية :: الحديث والسيرة النبوية-
انتقل الى: